قِصَّةُ مَبِيتِ علي (ع) في فراش النبي (ص):
اجتمع المشركون في دار النَّدْوَة وتذاكروا حول قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتقرَّر أخيرًا أن يجتمع من كل قبيلة رجلٌ واحدٍ ويهجموا على النبي (ص) ويقتلوه في بيته ، واجتمع أربعون رجلاً من أربعين قبيلةً ، واجتمعوا على باب دار النبي (ص) ، ونزل جبريل على النبي وأخبره بمكيدة القوم ، وأمره بالهجرة من مكَّة إلى المدينة ، فأرسل النبي إلى علي وقال له: يا علي ، إنَّ الرُّوح هبط علَيَّ يخبرني أن قُريشًا اجتمعت على المكر بي وقتلي ، وأنَّهُ أوحى إلَيَّ عن ربي أن أهجر دار قومي وأن أنطَلِق إلى غار ثور تحت ليلتي ، وَأنَّهُ أمرني أن آمُرَكَ بالمبيت على مضجعي لتخفي بمبيتك عليه أثري ، فما أنت قائلٌ وصانع ؟.
فقال علي عليه السلام: أوَتَسْلَمَنَّ بمبيتي هُناك يا نَبِيَّ الله ؟.
قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم نعم ، فتبسَّم علي ضاحِكًا ، وأهْوى إلى الأرض ساجِدًا ، شُكْرًا لِما أنبأه به رسول الله (ص) من سلامته ، فكان علي أوَّل من سجد للهِ شُكْرًا ، وأوَّل من وضع وجهه على الأرض بعد سَجْدَتِه من هذه الأُمَّة بعد رسول الله (ص) فَلَمَّا رفع رأسَهُ قال له: أمْضِي لِمَا أُمِرْتَ فداك سَمْعِي وبصري وَسُوَيدَاء قلبي ، وما توفيقي إلاَّ بالله.
قال النبي عليه الصلاة والسلام: فارقد على فراشي ، واشتمل ببُرْدي الحضْرَمِي ، ثم إني أُخْبِرُكَ يا علي ، أنَّ اللهَ تعالى يمتحن أولياءه على قدر إيمانهم ومنازلهم من دينه ، فأشَدُّ الناس بلاءً الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل ، وقد امتحَنَكَ يا ابن أُم وامتحَنَنِي فيك بِمثل ما امتحَنَ به خليله إبراهيم عليه السلام والذَّبيح إسماعيل عليه السلام ، فَصَبْرًا صَبْرًا ، فإنَّ رَحْمَةَ اللهِ قريبٌ من المُحْسِنِين ، ثم ضَمَّهُ النبي (ص) إلى صدره وبكى إليه وجْدًا بِهِ ، وبكى عَلِيٌّ جَزَعًا على فِرَاقِ رسول اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وآلهِ وسلَّم.
فانطلق النبي إلى الغار ، ونام عَلِيٌّ في مكانه ولَبِسَ بُرْدَهُ ، فجاءوا يريدون أن يقتلوا النبي (ص) ، فجعلوا يرمون عليًّا وهم يظُنُّونَ أنَّهُ النبي (ص) ، وكان علي يتضور من الألم ولا يتكلَّم لِئَلاَّ يعرفوه ، وكان القوم يريدون الهجوم على البيت ليلا ، فيمنعهم أبو لهب ويقول لهم: يا قوم إن في هذه الدَّار نساء بني هاشم وبناتهم ، ولا نأمن أن تقع يَدٌ خاطِئَةٌ إذا وقعت الصَّيحَةَ عليهِن ، فيبقى علينا مَسَبَّة وعارًا إلى آخر الدَّهْرِ في العَرَب.
فجلسوا على الباب حتى طلع الفجر ، فتواثبوا إلى الدَّار شاهرين سيوفهم ، وقصدوا نحو مضجع النبي (ص) ومعهم خالد بن الوليد ، فقال لهم أبو جهل: لا تقعوا به وهو نائمٌ ، ولكن ارموه بالأحجار لينتبه بها ثم اقتلوه ، أيقظوه ليجد ألم القتل ، ويرى السيوف تأخذه.
فرموه بأحجار ثقالٌ صائبة ، فكشف عن رأسه وقال: ما شأنكم ؟
فعرفوه ، فإذا هو علي ، فقال أبو جهل: أما ترون محمدًا كيف أبات هذا ونجى بنفسه لتشتغلوا به ، ؟
ثم قالوا أين محمد ؟ قال: أجعلتموني عليه رقيبًا ؟ ألستم قلتم: نخرجه من بلادنا ؟ فقد خرج عنكم.
وبقي النبي (ص) هو وصاحبه أبو بكر ثلاثة أيام في الغار ، وخرج النبي (ص) بعد ذالك من الغار وتوجه نحو المدينة المنوَّرة.
روى الثعلبي في تفسيره قال: لمَّا أراد النبي الهجرة إلى المدينة خلَّف علي بن أبي طالب لقضاء ديونه ، وردِّ الودائع التي كانت عنده ، وأمر ليلة خرج إلى الغار وقد أحاط المشركون بالدَّار وقال له: يا علي: اتَّشح بِبُرْدِي الحَضْرَمِي ، ثُمَّ نُمْ على فراشي فإنه لا يخلص إليك منهم مكروهٌ ، إن شاء اللهَ ، ففعل بما أمره ، فأوحى اللهَ عزَّ وجل إلى جبرائيل وميكائيل عليهما السلام: إنِّي قد آخَيْت بينكما وجعلت عُمْرُ أحدكما أطول من الآخر ، فأيُّكُمَا يُؤثِرُ صاحبه بالحياة ؟ فأوحى اللهُ عزَّ وجل إليهما: ألا كُنْتُما مثل علي بن أبي طالب ، آخيت بينه وبين محمد فبات على فِراشِه يفديه بنفسه ، ويُؤْثِرَهُ بالحياة ، اهبطا إلى الأرض فاحفظاه من عَدُوِّهِ فنزلا ، فكان جبرائيل عند رأسه ، وميكائيل عند رجليه ، وجبرائيل يقول: بَخٍّ بَخٍّ ّ من مثلك يا ابن أبي طالب ، يباهي اللهُ بك ملائكته ، فأنزل اللهُ عَزَّ وجل على رسوله(ص) وهو متوجِّهٌ إلى المدينة في شأن علي بن أبي طالبٍ عليه السلام: " وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشِرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ الله وَاللهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ " (سورة البقرة ، الآية:207)
وكان علي بن أبي طالب يعتزُّ ويفتخرُ بهذه المُوَفَّقِيَّةِ التي نالها من عند الله تعالى فقال شعرًا:
وَقَيْتُ بِنَفْسِي خَيْرُ مَنْ وَطِأَ الْحَصَى
وَمَنْ طَافَ بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ وَالْحَجْرِ
مُحَمَّدٌ لَما خَافَ أَنْ يَمْكُـرُوا بِهِ
فَوَقَّاهُ رَبِّي ذُو الْجَلاَلِ مِنَ الْمَكْرِ
وَبُتُّ أُرَاعِيهِمْ مَتَى يَنْشُرُونَنِي
وَقَدْ وَطِنَتْ نَفْسِي عَلَى الْقَتْلِ وَالأَسْرِ
وَبَاتَ رَسُولُ اللهِ فِي الْغَارِ آمِنًا
هُنَاكَ وَفِي حِفْظِ الإِلَهِ وَفِي سِـتْرِ
أَقَامَ ثَـلاَثً ا ثُـمَّ زَمَّـتْ قَلاَئِصٌ
قَلاَئِصُ يُفْرِينَ الْحَصَى أَيْنَمَا تُفْرِي
إنَّ هذا العمل العظيم الذي قام به الإمام (علي) وقع من أهل السماوات موقع الإعجاب والإكبار والتقدير ، وهذه المواساة هي الفريدة من نوعها في تاريخ الإسلام ، فلا غُرْوٌ ولا عَجَبٌ إذا طأطأ العظماء رؤوسهم إجلالاً لعلي عليه السلام، ونثروا الثناء الجميل نَظْمَا وَنَثْرًا ، ولم ينحصر التنويه والإشادة بهذه المَكْرُمَةِ بالمسلمين ، بل شاركهم من غير المسلمين كُلٌّ من تَطَبَّعَ بروح الفضيلة وحمل بين جوانح صَدْرِهِ قَلْبًا وَعَى جُزْءًا مِنَ الْفُتُوَّةِ والشَّهامَةِ وَالنّجدة.
قال الأستاذ/ بولس سلامة في ملحمة الغدير:
هَـزَّهُ الشّـَوْقُ لِلنَّبِيِّ فَشـَدَّ
الْعَزْمَ يَهْفُو إلَى جَمَّاعِ الْمَآثِرِ
فِي رِمَالِ الصَّحْرَاءِ يَسْرِي وَحِيدًا
مُقْفِرُ الْكَفِّ أَعْوَزَتْهُ الأَبَاعـِرِ
صَابِرٌ فِي الْعَذَابِ وَالْجُوعِ حَتَّى
عَجَبَ الْقَفْرُ مِنْ تَقَشُّفِ صَابِرِ
لاَ فِرَاشَ سِوَى الثَّرَى ، لاَ غِطَاءٌ
لاَ ضِيَاءٌ سِوَى النُّجُومِ الزَّوَاهِرِ
فَيُنَاجِي السُّهَى يَصْعَدُ فِي الأَجْوَاءِ
طَـرَفًا يَشِقُّ سـِتْرَ الدَّيَاجِـرِ
إِنَّ هَذَا الصَّمْتُ الرَّهِيبُ لِقُدْسٍ
يَغْسِلُ الْمَرْءَ بِالْعَذَابِ الصَّاهِـرِ
فَالْخُطـُوبُ الْجِسـَامُ وَالأَلَــمِ
الْمَمْدُودِ وَحْيٌ مُطَهَّرٌ لِلضَّمَائِرِ
فَإِذَا كَـانَ طَاهــِرًا كـَعَلِيٍّ
شـَدَّ للهِ قَلْبَـهُ بِأَوَاصــِرِ
يَـذْكُـرُ اللهَ بُكْــرَةً وَعَـَشِيًّا
وَيُصَلِّي فِي كُلِّ وَمْضَةِ خَاطِرِ
فَالْمُنَاجَـاةُ وَالصَّـلاَةُ عُطُـورٌ
تَتَعَالَى إِلَى السّـَمَاءِ مَبَاخِـرِ
يَا رِمَالِ الصَّحْـرَاءِ هَـذَا عَلِيٌّ
فَامْلَئِي الدَّرْبَ وَالضِّفَافُ أَزَاهِرِ
هُوَ بَعْـدَ النَّبِيِّ أَشـْرَفُ ظِلٍّ
لاَحَ فِي السَّبْسَبِ الْخَلِيِّ مُهَاجِرِ
حَمِّلِي أَجْنُـحِ الأَثِـيرِ نَسـِيمًا
مِنْ جُفُونِ الأَسْحَارِ رَيَّانَ عَاطِرِ
وَابْسِطِي حَوْلَهُ الزَّنَابِقِ فـُرْشًا
وَانْشُرِي فَوْقَهُ الْغَمَامِ مَقَاصـِرِ